الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فصــل ثم إن المنحرفين المشابهين للصابئة: إما مجردة، وإما منحرفة إلى يهودية أو نصرانية، من أهل المنطق والقياس، الطالبين للعلم والكلام، ومن أهل العمل والوجد، الطالبين للمعرفة، والحال، أهل الحروف، وأهل الأصوات سلكوا في أصل العلم الإلهي طريقين: كل منهم سلك طريقا. وقد يسلك بعضهم هذا في وقت، وهذا في وقت، وربما جمع بعضهم بين الطريقين. وأكثرهم لا يعلمون أن الله إليه طريق إلا أحد هذين، كما يذكره جماعات:مثل ابن الخطيب، ومن نحا نحوه، بل مثل أبي حامد، لما حصر الطرق في الكلام، والفلسفة، الذي هو النظر، والقياس، أو في التصوف والعبادة، الذي هو العمل والوجد، ولم يذكر غير هؤلاء الأصناف الثلاثة. بل أبو حامد لما ذكر في المنقذ من الضلال، والمفصح بالأحوال، أحواله في طرق العلم، وأحوال العالم، وذكر أن أول ما عرض له ما يعترض طريقهم- وهو السفسطة بشبهها المعروفة- وذكر أنه أعضل به هذا الداء قريباً من شهرين، هو فيهما على مذهب السفسطة، بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى/ الله عنه ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها، على أمن وتبين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكبر المعارف قال: فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة. ثم قال: انحصرت طرق الطالبين عندي في أربع فرق: المتكلمون: وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر. والباطنية: وهم يدعون أنهم أصحاب التعلم، والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم. والفلاسفة: وهم يدعون أنهم أصحاب المنطق والبرهان. والصوفية: ويدعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المكاشفة، والمشاهدة. فقلت في نفسي: الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم السالكون سبل طريق الحق، فإن سد الحق عنهم فلا يبقي في درك الحق مطمع. ثم ذكر أن مقصود الكلام وفائدته: الذب عن السنة بالجدل، لا تحقيق الحقائق، وأن ما عليه الباطنية باطل، وأن الفلسفة بعضها حق، وبعضها كفر، والحق منها لا يفي بالمقصود. ثم ذكر أنه أقبل بهمته على طريق الصوفية، وعلم أنها لا تحصل إلا بعلم/ وعمل، فابتدأ بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد، حتى طلع على كنه مقاصدهم العلمية. ثم إنه علم يقينا أنهم أصحاب أحوال، لا أصحاب أقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصله، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالتعلم والسماع، بل بالذوق والسلوك. قال: وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها،والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية، والعقلية إيمان يقيني بالله، وبالنبوة وباليوم الآخر. وهذه الأصول الثلاثة - من الإيمان - كانت قد رسخت في نفسي بالله لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجارب، لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى. وذكر أنه تخلى عشر سنين. إلى أن قال: انكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به: أني علمت يقينا، أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم، وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا. /فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من مشكاة نور النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به. وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريق طهارتها؟ وهي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب بذكر الله. قلت: يستفاد من كلامه أن أساس الطريق: هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما قررته غير مرة. وهذا أول الإسلام، الذي جعله هو النهاية، وبينت الفرق بين طريق الأنبياء، وطريق الفلاسفة والمتكلمين، لكن هو لم يعرف طريقة أهل السنة والحديث، من العارفين، فلهذا لم يذكرها، وهي الطريقة المحمدية المحضة، الشاهدة على جميع الطرق. والسهروردي الحلبي، المقتول، سلك النظر والتأله جميعا، لكن هذا صابئي محض، فيلسوف لا يأخذ من النبوة إلا ما وافق فلسفته، بخلاف ذينك وأمثالهما. ثم منهم من لا يعرف إلا طريقة النظر والقياس ابتداء، كجمهور المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، والأشعرية، وبعض الحنبلية. ومنهم من لا يعرف ابتداء إلا طريقة الرياضة، والتجرد والتصوف، ككثير من الصوفية والفقراء الذين وقعوا في الاتحاد، والتأله المطلق، مثل: عبد الله الفارسي، والعفيف التلمساني ونحوهما. ومنهم من قد يجمع كالصدر القوْنَوِي ونحوه. /والغالب عليهم عالم التوهم. فتارة يتوهمون ما له حقيقة، وتارة يتوهمون ما لا حقيقة له، كتوهم إلهية البشر، وتوهم النصاري، وتوهم المنتظر، وتوهم الغوث المقيم بمكة أنه بواسطته يدبر أمر السماء والأرض، ولهذا يقول التلمساني: ثبت عندنا بطريق الكشف ما يناقض صريح العقل. ولهذا أصيب صاحب الخلوة بثلاث توهمات: أحدها: أن يعتقد في نفسه أنه أكمل الناس استعداداً. والثاني: أن يتوهم في شيخه أنه أكمل من على وجه الأرض. والثالث: أنه يتوهم أنه يصل إلى مطلوبه بدون سبب، وأكثر اعتماده على القوة الوهمية، فقد تعمل الأوهام أعمالا لكنها باطلة، كالمشيخة الذين لم يسلكوا الطرق الشرعية النبوية، نظراً أو عملاً، بل سلكوا الصابئية. ويشبه هؤلاء من بعض الوجوه: أكثر الأحمدية، واليونسية، والحريرية، وكثير من العدوية، وأصحاب الأوحد الكرماني، وخلق كثير من المتصوفة والمتفقرة بأرض المشرق؛ ولهذا تغلب عليهم الإباحة، فلا يؤمنون بواجبات الشريعة ومحرماتها. وهم إذا تألهوا في تألهٍ مطلقٍ، لا يعرفون من هو إلههم بالمعرفة القلبية، وإن حققه عارفوهم الزنادقة، جعلوه الوجود المطلق. ومنهم من يتأله الصالحين من البشر، وقبورهم ونحو ذلك. فتارة يضاهئون المشركين، وتارة يضاهئون النصارى، وتارة يضاهئون/ الصابئين، وتارة يضاهئون المعطلة الفرعونية، ونحوهم من الدهرية، وهم من الصابئين، لكن كفار في الأصل. والخالص منهم يعبد الله وحده، لكن أكثر ما يعبده بغير الشريعة القرآنية المحمدية، فهم منحرفون، إما عن شهادة أن لا إله إلا الله، وإما عن شهادة أن محمداً رسول الله، وقد كتبته في غير هذا. وكل واحد من طريقي النظر والتجرد طريق فيه منفعة عظيمة، وفائدة جسيمة، بل كل منهما واجب لابد منه، ولا تتم السعادة إلا به، والقرآن كله يدعو إلى النظر والاعتبار والتفكر، وإلى التزكية والزهد والعبادة. وقد ذكر القرآن صلاح القوة النظرية العلمية، والقوة الإرادية العملية في غير موضع، كقوله: وكذلك العبادة التامة فعل ما أمر به العبد وما جاءت به الرسل، وقد وقع/ الخطأ في الطريقين، من حيث: أخذ كل منهما أو مجموعهما، مجرداً في الابتداء عن الإيمان بالله، وبرسول.. بل اقتصر فيهما على مجرد ما يحصله نظر القلب، وذوقه الموافق لما جاءت به الرسل تارة، والمخالف لما جاءت به أخرى، في مجرد النظر العقلي، ومجرد العبادات العقلية، أو الصعود عن ذلك إلى النظر الملي، والعبادات الملية، والواجب أنه لابد في كل واحد من النظر والعمل، من أن يوجد فيه العقلي، والملي، والشرعي، فلما قصروا وقع كل من الفريقين، إما في الضلال، وإما في الغواية، وإما فيهما. وحاصلهم: إما الجهل البسيط، أو الكفر البسيط، أو الجهل المركب، أو الكفر المركب، مع الجهل والظلم. وذلك أن طريقة أهل النظر والقياس: مدارها على مقدمة لابد منها في كل قياس يسلكه الآدميون، وهي مقدمة كلية جامعة، تتناول المطلوب، وتتناول غيره، بمعنى أنها لا تمنع غيره من الدخول، وإن لم يكن له وجود في الخارج، فهي لا تتناول المطلوب لخاصيته، بل بالقدر المشترك بينه وبين غيره، والمطلوب بها هو الله ـ تعالى ـ فلم يصلوا إليه إلا بجامع ما يشترك فيه هو وغيره، من القضايا الإيجابية، والسلبية. والمشترك بينه وبين غيره لا يعرف بخصوصه أصلا، فلم يعرفوا الله،/ بل لما اعتقدوا فيه القدر المشترك صاروا مشركين به، وحكموا على القدر المشترك بأحكام سلبية، أو إيجابية، فإنها تصح في الجملة ؛ لأن ما انتفى عن المعنى العام المشترك انتفى عن الخاص المميز، وليس ما انتفى عن الخاص المميز انتفى عن العام، فما نفيته عن الحيوان أو عن النبي، انتفى عن الإنسان والرسول. وليس ما نفيته عن الإنسان أو الرسول انتفى عن الحيوان أو النبي. ولهذا كان قوله:(لا نبي بعدي) ينفي الرسول،وكذلك ما ثبت للمعنى المشترك بصفة العموم ثبت للخاص، وما ثبت له بصفة الإطلاق لم يجب أن يثبت للخاص، فإذا ثبت حكم لكل نبي دخل فيه الرسول. وأما إذا ثبت للنبي مطلقًا لم يجب أن يثبت للرسول، وقد تتألف من مجموع القضايا السلبية والإيجابية أمور لا تصدق إلا عليه، ولا يصح أن يوصف بها غيره، كما إذا وصف نبي بمجموع صفات، لا توجد في غيره. لكن هذا القدر يعرف انتفاء غيره أن يكون إياه، وأما عينه فلا يعرف بمجموع تلك القضايا الكلية، فلا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب، والعدم، إذا كان القياس صحيحا. ولهذا جاءت الأمثال المضروبة في القرآن ـ وهي المقاييس العقلية ـ دالة على النفي في مثل قوله: ولهذا كان الغالب على أهل القياس، من أهل الفلسفة، و الكلام، في جانب الربوبية إنما هي المعارف السلبية. ثم لم يقتصروا على مقدار ما يعلمه العقل من القياس، بل تعدوا ذلك، فنفوا أشياء مشبهة القياس الفاسد، مثل نفي الصفات النبوية، الخبرية، بل ونفى الفلاسفة والمعتزلة للصفات التي يثبتها متكلمو أهل الإثبات، ويسمونها الصفات العقلية؛ لإثباتهم إياها بالقياس العقلي. ومعلوم أن العقل لا ينفي بالقياس إلا القدر المشترك، الذي هو مدلول القضية الكلية التي لابد منها في القياس، مثل أن ينفي الإرادة أو الرحمة أو العلم المشترك بين مسميات هذا الاسم، والقدر المشترك في المخلوقين تلحقه صفات لا تثبت لله تعالى، فينفون المعنى المشترك المطلق، على صفات الحق وصفات الخلق ـ تبعاً لانتفاء ما يختص به الخلق ـ فيعطلون، كما أن أهل التمثيل يثبتون ما يختص به الخلق ـ تبعاً للقدر المشترك ـ وكلاهما قياس خطأ. ففي هذه الصفات، بل وفي الذوات ثلاث اعتبارات: أحدها: ما تختص به ذات الرب وصفاته. والثاني: ما يختص به المخلوق وصفاته. /والثالث: المعنى المطلق الجامع. فاستعمال القياس الجامع في نفي الأول خطأ، وكذلك استعماله في إثبات الثاني. وأما استعماله في إثبات الثالث، فيحتاج إلى إدراك العقل لثبوت المعنى الجامع الكلي، وهذا أصل القياس والدليل، فإن لم يعرف العقل بنفسه - أو بواسطة قياس آخر- ثبوت هذا، وإلا لم يستقم القياس. وكذلك في معارفهم الثبوتية لا يأتون إلا بمعانٍ مطلقة مجملة. مثل ثبوت الوجود، ووجوب الوجود، أو كونه رباً أو صانعاً أو أوَّلاً، أو مبدأ أو قديما، ونحو ذلك من المعاني الكلية، التي لا يعلم بها خصوص الرب تعالى، إذ القياس لا يدل على الخصوص، فإنه إذا استدل بأن كل ممكن فلابد له من موجب وبأن كل محدَث فلابد له من محدِث، كان مدلول هذا القياس أمراً عاماً، وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع. وكذلك أصحاب الرياضة والتجرد، فإن صفوتهم الذين يشتغلون بذكر بسيط مثل لا إله إلا الله إن لم يغلوا فيقتصروا على مجرد [الله، الله] ويعتقدون أن ذلك أفضل وأكمل، كما فعله كثير منهم، وربما اقتصر بعضهم على [هُوْ، هُوْ] أو على قوله:[لا هو إلا هو] ؛ لأن هذا الذكر المبتدع الذي هو لا يفيد بنفسه إلا أنه مطلقاً، ليس فيه بنفسه ذكر لله إلا بقصد المتكلم. فقد ينضم إلى ذلك اعتقاد صاحبه أنه لا وجود إلا هو، كما يصرح به بعضهم ويقول: لا هو إلا هو، أو لا موجود إلا هو، وهذا عند الاتحادية/ أجود من قول: [لاإله إلا الله]؛ لأنه مصرح بحقيقة مذهبهم الفرعوني القرمطي، حتى يقول بعضهم: [لا إله إلا الله] ذكر العابدين، و[الله، الله] ذكر العارفين، و [هو] ذكر المحققين، ويجعل ذكره [يا من لا هو إلا هو]، وإذا قال: الله، الله إنما يفيد مجرد ثبوته، فقد ينضم إلى ذلك نفي غيره لا نفي إلهية غيره، فيقع صاحبه في وحدة الوجود وربما انتفى شهود القلب للسوي إذا كان في مقام الفناء فهذا قريب، أما اعتقاد أن وجود الكائنات هي هو، فهذا هو الضلال. ويضمون إلى ذلك نوعا من التصفية، مثل ترك الشهوات البدنية من الطعام والشراب والرياسة والخلوة، وغير ذلك من أنواع الزهادة المطلقة، والعبادة المطلقة، فيصلون أيضا إلى تأله مطلق، ومعرفة مطلقة بثبوت الرب ووجوده ونحو ذلك، من نحو ما يصل إليه أرباب القياس. ثم قد تتوارى هذه المعرفة والعلم بملابسة الأمور الطبيعية، من الطعام، والاجتماع بالناس، فإن سببها إنما هو ذلك التجرد، فإذا زال زال، ولهذا قيل:كل حال أعطاكه الجوع فإنه يذهب بالشبع، كما قد تتوارى معرفة الأولى المطلقة بغفلة القلب عن تلك المقاييس النظرية، ولا ريب أن القياس يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه، وأن الرياضة والتأله يفضي إلى معرفة بحسب مقتضاه، لكن معرفة مطلقة بسبب قد يثبت وقد يزول، وكثيراً ما يفضي إلى الاتحاد والحلول والإباحة، وذلك لأنهم يجردون التأله عما لابد منه من صالح البشر، فإذا احتاجوا إليها أعرضوا عن التأله. فهم إما آلهة عند نفوسهم، وإما زنادقة أو فساق، ولهذا حدثني الشيخ/ الصالح يوسف من أصحابنا أنه رآني في المنام وأنا أخاطبهم والمعرفة الحاصلة بذلك هي المعرفة التي تصلح حال العبد وتجب عليه،لكن قد يحصل مع صدق الطلب ـ بواسطة القياس، أو بواسطة الوجد ـ وصول إلى الرسالة فيتلقى حينئذ من الرسالة ما يصلح حاله،ويعرفه المعرفة التامة والعلم النافع الواجب عليه ـ وهي الطريق الشرعية النبوية التي ذكرناها أولا ـ وقد لا يحصل ذلك فيقع كثير منهم في الاستغناء عن النبوة، اعتقادا أو حالا بالإعراض عما جاءت به، فيفوته من الإيمان والعلم والمعرفة ـ التي جاء بها الرسول ـ ما يضل بفواته في الدنيا عن الهدى، ويشقى به الشقاء الأكبر، كحال الكافرين بالرسول وإن آمنوا بوجود الرب، من اليهود والنصارى والصابئين، فإن في المسلمين من ينافق في الرسول، كما كفر هؤلاء به ظاهراً، وهذا النفاق كثير جداً، قديما وحديثا. وقد تنعقد في قلبه مقاييس فاسدة، ومواجيد فاسدة، يحكم بمقتضاها في الربوبية أحكاماً فاسدة مثل: أحكام المنحرفة إلى صابئية، أو يهودية أو نصرانية، من الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة، الذين انحرفوا إما إلى تعطيل للصفات وتكذيب بها، وإما إلى تمثيل لها وتشبيه، وإما إلى اعتقاد أن الرب هو الوجود المطلق الذي لا يتميز، وأن عين / الوجود هو عين الخالق،وأنه ليس وراء السموات والأرض شيء آخر، وإنما هذه الأشياء كلها مراتب للصفات، وأن الربوبية والإلهية مراتب ذهنية شكوكية. وأما في الحقيقة: فليس إلا عين ذاته، فالمحجوبون يرون المراتب والمكاشف ما ترى إلا عين الحق. ويحسبون ـ ويحسب كثير بسببهم ـ أن هذا التوحيد هو توحيد الصديقين، الذين عرفوا الله، وقالوا: ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل ** كما يحسب المتكلم الزائغ أن توحيده - الذي هو نفي الصفات - هو توحيد الأنبياء، والصديقين، الذين عرفوا الله ؛ ولهذا يقع في هؤلاء الشركُ كثيرا، حتى يسجد بعضهم لبعض، كما يقع في القسم الآخر تحريم الحلال من العقود، والعبادات المباحة. فاقتسم الفريقان: ما ذم الله به المشركين، من الشرك، وتحريم الحلال... وهكذا يوجد كثيراً في هؤلاء المشبهة للنصارى. وظهر في الآخرين من الآصار، والأغلال، وجحود الحق، وقسوة القلوب ما يوجد كثيرا في هؤلاء المشبهة لليهود. هذا في غير الغالية منهم، وأما الغالية من الصنفين، فعندهم أن معرفتهم وحالهم فوق معرفة الأنبياء وحالهم. كما يقول التلمساني: القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله. /وكما يزعم الفارابي: أن الفيلسوف أكمل من النبي،وإنما خاصة النبي جودة التخييل للحقائق، إلي أنواع من الزندقة والكفر، يلتحقون فيها بالإسماعيلية، والنصيرية، والقرامطة، والباطنية، ويتبعون فرعون، والنمروذ وأمثالهما من الكافرين بالنبوات، أو النبوة والربوبية. وهذا كثير جداً في هؤلاء وهؤلاء، وسبب ذلك عدم أصل في قلوبهم، وهو الإيمان بالله، والرسول. فإن هذا الأصل إن لم يصحب الناظر، والمريد، والطالب، في كل مقام، وإلا خسر خسرانا مبينا، وحاجته إليه كحاجة البدن إلى الغذاء، أو الحياة إلى الروح. فالإنسان بدون الحياة والغذاء لا يتقوم أبداً، ولا يمكنه أن يَعلم، ولا أن يُعلم. كذلك الإنسان بدون الإيمان بالله ورسوله لا يمكنه أن ينال معرفة الله، ولا الهداية إليه، وبدون اهتدائه إلى ربه لا يكون إلا شقيا معذباً، وهو حال الكافرين بالله ورسوله، ومع الإيمان بالله ورسوله إذا نظر، واستدل، كان نظره في دليل وبرهان - وهو ثبوت الربوبية، والنبوة - وإذا تجرد وتصفى، كان معه من الإيمان ما يذوقه بذلك ويجده. ثم هذا النظر، وهذا الذوق يجتلب له ما وراء ذلك من أنواع المعالم الربانية، والمواجيد الإلهية. والعلم والوجد متلازمان. وذلك، أن الأنبياء والمرسلين عرفوا الله بالوحي المعرفة التي هي معرفة، وعبدوه العبادة التي هي حق له بحسب ما منحهم الله تعالى. وهم درجات في ذلك، لكن عرفوا من خصوص الربوبية ما لا يقوم به/ مجرد القياس النظري، ولا يناله مجرد الذوق الإرادي، ثم أخبروا عن ذلك. ولابد في الوصف والإخبار من أن يذكر المسمى الموصوف بالأسماء والأوصاف المتواطئة التي فيها اشتراك وتمييز عن المخلوقات بما يقطع الشركة؛ لأن القصد بالإخبار، والوصف، تعريف المخاطبين، والمخاطبون لا يعرفون الخصوصيات، التي هي خصوص ذات الله، و صفاته. فلو أخبروا بذلك وحده مجرداً لم يعرفوا شيئا، بل ربما أنكروا ذلك. فإذا خوطبوا بالمعاني المشتركة، وأزيل مفسدة الاشتراك بما يقطع التماثل، كقوله: إما رجل مؤمن، آمن بمعاني تلك الصفات على الوجه المطلق الجملي وأثبتها لله على وجه يليق به، ويختص به، لا يشركه فيه مخلوق، فهذا غاية الممكن في حال هؤلاء. وإما رجل قذف اللّه في قلبه من نوره وهدايته الخاصة ما أشهده شيئا من الخصوصيات، التي هي أعيان تلك الأسماء والصفات، فيعلم ذلك لا بمجرد القياس، ولا بمجرد الوجد بل بشهود علمي مطابق لما أخبرت به الرسل، وتدله على صحة شهوده موافقته لما أنبأت به الرسل، ويحصل له نصيب من النبوة، فإن النبوة انقطعت بكمالها، وأما وجود بعض أجزائها فلم ينقطع. ولابد أن يكون في بعض الأمور محجوبا عن أن يشهد ما شهده النبي، فيصدقه فيه، لشهوده بعض ما أخبر به النبي، ويبقى ما شهده محققا عنده لثبوت ما لم يشهده، وهذه حال الصديقين مع الأنبياء. /وذلك نظير من وصف له ملك مدينة، بأنواع من الصفات، فقدم حتى رأى بعض شؤونه التي دلته على صدق المخبر فيما لم يشهد. ولست أجعل مجرد هذه الشهادة مصدقة، فإن المخبر قد يصدق في بعض، ويخطئ في بعض،وإنما ذلك بواسطة إخبار المخبر - أي رسول الله - وشهوده منه ما يوجب له امتناع الكذب عليه، كما يذكر في غير هذا الموضع. فإن قلت: فمن أين له ابتداء صحة الإيمان بالله ورسوله، حتى يصير ذلك أصلا يبني عليه، وينتقل معه إلى ما بعده؟ فأهل القياس والوجد إنما تعبوا التعب الطويل ـ في تقرير هذا الأصل ـ في نفوسهم، ولهذا يسمي المتكلمون كل ما يقرر الربوبية والنبوة: العقليات والنظريات، ويسميها أولئك: الذوقيات، والوجديات، ورأوا أن ما لا يتم معرفة الله ورسوله إلا به فمعرفته متقدمة على ذلك، وإلا لزم الدور. فسموا تلك عقليات، والعقليات لا تنال إلا بالقياس العقلي المنطقي. قلت: جواب هذا من وجوه: أحدها: المعارضة بالمثل، فإن سالك سبيل النظر القياسي، أو الإرادة الذوقية، من أين له ابتداء أن سلوك هذا الطريق يحصل له علما، ومعرفة، ليس معه ابتداء إلا مجرد إخبار مخبر بأنه سلك هذا الطريق فوصل، أو خاطر يقع في قلبه سلوك هذا الطريق، إما مجوزا للوصول أو متحريا أو غير ذلك، أو سلوكا ابتداء بلا انتهاء، وليس ذلك مختصا بالعلم الإلهي، بل كل العلوم لابد للسالك فيها ابتداء من مصادرات يأخذها مسلمة إلى أن تتبرهن فيما بعد. /إذا لو كان كل طالب العلم حين يطلبه قد نال ذلك العلم، لم يكن طالبا له، والطريق التي يسلكها قد يعلم أنها تفضي به إلى العلم. لكن الكلام في أول الأوائل، ودليل الأدلة، وأصل الأصول. فإنه لو كان حين ينظر فيه يعلم أنه دليل مفض لم يمكن ذلك حتى يعلم ارتباطه بالمدلول، فإن الدليل إن لم يستلزم المدلول لم يكن دليلاً. والعلم بالاستلزام موقوف على العلم بالملزوم واللازم،فلا يعلم أنه دليل على المدلول المعين،حتى يعلم ثبوت المدلول المعين، ويعلم أنه ملزوم له، وإذا علم ذلك استغنى عن الاستدلال به على ثبوته، وإنما يفيده التذكير به، لا ابتداء العلم به، وإنما يقع الاشتباه هنا؛ لأنه كثيراً ما يعرف الإنسان ثبوت شيء، ثم يطلب الطريق إلى معرفة صفاته، ومشاهدة ذاته، إما بالحس، وإما بالقلب، فيسلك طريقا يعلم أنها موصلة إلى ذلك المطلوب ؛ لأنه قد علم أن تلك الطريق مستلزم لذلك المطلوب الذي علم ثبوته قبل ذلك. كمن طلب أن يحج إلى الكعبة، التي قد علم وجودها، فيسلك الطريق التي يعلم أنها تفضي إلى الكعبة، لإخبار الناس له بذلك، أو يستدل بمن يعلم أنه عارف بتلك الطريق، فسلوكه للطريق بنفسه بعد علمه أنها طريق ـ المقصود ـ بإخبار الواصلين، أو سلوكه بدليل خريت ـ يهديه في كل منزلة ـ لا يكون إلا بعد العلم بثبوت المطلوب، وثبوت أن هذا طريق ودليل. وهكذا حال الطالبين لمعرفة الله، والمريدين له، والسائرين إليه، قد عرفوا /وجوده أولا وهم يطلبون معرفة صفاته، أو مشاهدة قلوبهم له في الدنيا. فيسلكون الطريق الموصلة إلى ذلك بالإيمان والقرآن. فالإيمان: نظير سلوك الرجل الطريق التي وصفها له السالكون، فإنهم متفقون على ذلك. والقرآن: تصديق الرسل فيما تخبر به، وهو نظير اتباع الدليل منزلة منزلة، ولابد في طريق الله منهما. وأما الشيء الذي لم يعلم العقل ثبوته أولا، إذا سلك طريقا يفضي إلى العلم به - فلا يسلكها ابتداء إلا بطريق التقليد والمصادرة - كسائر مبادئ العلوم - فإذا كان لابد في الطريقة القياسية، والعملية، من تقليد في الأول ـ في سلوكه فيما لم يعلم أنه طريق، وأنه مفض إلى المطلوب ـ أو أن المطلوب موجود، فالطريقة الإيمانية ـ إذا فرض أنها كذلك ـ لم يقدح ذلك فيها، بل تكون هي أحق، لوجوه كثيرة. ونذكر بعضها إن شاء الله. بل لا طريق إلا هي أو ما يفضي إليها، أو يقترن بها فهي شرط قطعاً في درك المطلوب، وما سواها ليس بشرط، بل يحصل المطلوب دونه وقد يضر بحصول المطلوب فلا يحصل، أو يحصل نقيضه وهو الشقاء الأعظم على التقديرين، فتلك الطريق مفضية قطعاً ولا فساد فيها، وما سواها يعتريه الفساد كثيراً، وهو لا يوصل وحده، بل لابد من الطريقة الإيمانية. /الوجه الثاني في الجواب: أن الطريقة القياسية، والرياضية، إذا سلكها الرجل وأفضت به إلى المعرفة - إن أفضت - علم حينئذ أنه سلك طريقا صحيحا وأن مطلوبه قد حصل، وأما قبل ذلك فهو لا يعرف، فأدني أحوال الإيمانية - ولا دناءة فيها - أن تكون كذلك. فإنه إذا أخذ الإيمان بالله ورسله مسلما، ونظر في موجبه،وعمل بمقتضاه، حصل له بأدني سعي مطلوبه من معرفة الله، وأن الطريق التي سلكها صحيحة، فإن نفس تصديق الرسول فيما أخبر به عن ربه وطاعته، يقرر عنده علماً يقينياً بصحة ذلك أبلغ بكثير مما ذكر أولا. الوجه الثالث: أن الإقرار بالله قسمان: فطري، وإيماني. فالفطري: ـ وهو الاعتراف بوجود الصانع - ثابت في الفطرة. كما قرره الله في كتابه في مواضع وقد بسطت القول فيه في غير هذا الموضع. فلا يحتاج هذا إلى دليل، بل هو أرسخ المعارف، وأثبت العلوم، وأصل الأصول. وأما الإقرار بالرسول، فبأدني نظر فيما جاء به، أو في حاله، أو في آياته، أو نحو ذلك من شؤونه يحصل العلم بالنبوة، أقوى بكثير مما يحصل المطالب القياسية، والوجدية، في الأمور الإلهية. ثم إذا قوي النظر في أحواله حصل من اليقين الضروري الذي لا يمكن دفعه ما يكون أصلا راسخا. وبسط هذا مذكور في غير هذا الموضع؛ إذ المقصود هنا بيان خطأ من سلك طريق القياس، أو الرياضة، دون الإيمان ابتداء. وأما تقرير طريقة الإيمان فشأنه عظيم، أعظم مما كتبته هنا. الوجه الرابع: أنا نخاطب المسلمين المتسمين بالإيمان، الذين غرض أحدهم/ معرفة الله الخاصة، التي يمتاز بها العلماء والعارفون عن العامة، فيسلك بعضهم طريقة أهل القياس المبتدع، والفلاسفة والمتكلمين، وبعضهم طريقة أهل الرياضة والإرادة المبتدعة، من المتفلسفة والمتصوفه، معرضا عما جاء به الرسول في تفاصيل هذه الأمور، فإن هؤلاء إذا كانوا عالمين بصدق الرسول - المبلغ عن ربه، الهادي إليه، الداعي إليه، الذي أكمل له الدين، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء - كيف يدعون الاستدلال بما جاء به، والاقتداء به، إلى ما ذكر من الطريقين؟ الوجه الخامس: أن أكثر من سلك الطريقين المنحرفين، لم يعتقد أن هناك طريقا ثالثا- كما يذكره رجال من فضلاء العالم الغالطين في القواعد الكبار - فهم ينتقلون من مادة فلسفية صابئية، إلى مادة إرادية نصرانية، إلى مادة كلامية يهودية. وأهل فلسفتهم يوما مع ذوي إرادتهم، ويوما مع ذوي كلامهم، وهم متهوكون في هذه المجارات. والطريقة الإيمانية النبوية المحمدية، الدينية السنية الأثرية، لا يهتدون إليها، ولا يعرفونها ولا يظنون أنها طريقة إلى مطلوبهم، ولا تفضي إلى مقصودهم، وذلك لعدم وجود من يسلكها في اعتقادهم، أو كبتوا نفوسهم عنها ظلما، فلضلالهم عنها أو غوايتهم وجهلهم بها، أو ظلمهم أنفسهم، أعرضوا عنها. فإن قلت: فالقرآن يأمر بالنظر في الآيات. /قلت: النظر لا ريب في صحته في الجملة، وأنه إذا كان في دليل أفضى إلى العلم بالمدلول، وإذا كان في آيات الله أفضى إلى الإيمان به، الذي هو رأس العبادة، كما أن العبادة والإرادة لا ريب في صحتها في الجملة، وأنها إذا كانت على منهاج الأنبياء أفضت إلى رضوان الله، لكن عليك أن تفرق بين الآيات وبين القياس، كما قد بيناه في غير هذا الموضع. فإن الآية هي العلامة. وهي ما تستلزم بنفسها لما هي آية عليه، من غير توسط حد أوسط، ينتظم به قياس مشتمل على مقدمة كلية، كالشعاع فإنه آية الشمس، وكذلك النبات للمطر في الأرض القفر، والدخان للنار، وإن لم ينعقد في النفس قياس، بل العقل يعلم تلازمهما بنفسه، فيعلم من ثبوت الآية ثبوت لازمها، والعلم بالتلازم قد يكون فطريا، وقد لا يكون. الوجه السادس: أن تينك الطريقين ليستا باطلا محضا، بل يفضي كل منهما إلى حق ما، لكن ليس هو الحق الواجب، وكثيراً ما يقترن معه الباطل فلا يحصل بكل منهما بمجرده أداء الواجب ولا اجتناب المحرم، و لا تحصلان المقصود الذي فيه سعادة العبد من نجاته ونعيمه، بعد مبعث الرسول. أما الطريقة النظرية القياسية، فإنه لابد فيها من الاستدلال بالممكن على الواجب، أو المحدَث على المحدِث، أو بالحركة على المحرِّك، وذلك يعطي فاعلا عظيما من حيث الجملة. وكذلك الطريقة الرياضية الذوقية تعطي انقياد القلب وخضوعه إلى الصانع/ المطلق، وكل منهما لابد فيها من علم اضطراري يضطر القلب إليه؛ إذ القلب لا يحصل له علم إلا من جنس الاضطراري ابتداء بتوسط الضروري، فإن النظر يبنى على مقدمات تنتهي إلى ما هو من جنس الضروري، إما بتوسط الحس أو مجرداً عن الحس. فالطريق القياسية تفيد العلم بتوسط مقدمات ضرورية، مثل أن يقال: الوجود المعلوم إما ممكن، وإما واجب، والممكن لا يوجد إلا بواجب. فثبت وجود الواجب على التقديرين. ومثل أن يقال: العالم محدَث أو كثير منه محدث. والثاني ضروري، والأول يستدل عليه. ثم يقال: وكل محدَث فله محدِث. أو يقال: لا شك أن ثم وجودًا، وهو إما قديم، وإما محدَث، والمحدث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين. كما يقال: لا ريب أن ثم وجودًا، وهو إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب فثبت وجود الواجب على التقديرين. وقد يقال أيضا: لا ريب أن ثم وجودا، وهو إما مصنوع، أو غير مصنوع، أو مخلوق أو غير مخلوق، أو مفطور أو غير مفطور، والمصنوع أو المخلوق أو المفطور، لابد له من صانع وخالق وفاطر، فثبت وجود ما ليس بمصنوع ولا مفطور ولا مخلوق على التقديرين. /فهذه الوجوه وما يشبهها تدل على وجود واجب قديم ليس بمصنوع، لكن الشأن في تعيينه، فإن عامة الدهرية يقولون: هذا هو العالم أو شيء قائم به. ثم إن افتقار الممكن إلى الواجب، والمحدث إلى القديم، والمصنوع إلى الصانع، مقدمة ضرورية؛ وإن كان طائفة من النظار يستدلون على هذه المقدمة، وعلى أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، والجمهور على الاكتفاء بالضرورة فيهما. والطريق العبادية تفيد العلم بتوسط الرياضة وصفاء النفس، فإنه حينئذ يحصل للقلب علم ضروري،كما قال الشيخ إسماعيل الكوراني لعز الدين بن عبد السلام لما جاء إليه يطلب علم المعرفة ـ وقد سلك الطريقة الكلامية ـ فقال:أنتم تقولون: إن الله يعرف بالدليل، ونحن نقول: عرَّفنا نفسه فعرفناه. وكما قال نجم الدين الكبرى لابن الخطيب، ورفيقه المعتزلي وقد سألاه عن علم اليقين، فقال: هو واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. فأجابهما: بأن علم اليقين عندنا هو موجود بالضرورة لا بالنظر، وهو جواب حسن. فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه الانفكاك عنه. فالقائس إن لم يحصل له العلم الضروري ابتداء، وإلا فلابد أن يبني نظره وقياسه على مقدمات ضرورية، ثم حينئذ يحصل له العلم. ولهذا قال طائفة منهم ـ أبو المعالي الجويني إن جميع العلوم ضرورية /باعتباراتها بعد وجود النظر الصحيح في الدليل تحصل العلم ضرورة، لكن منها ما هو ضروري عند تصور طرفي القضية، ومنها ما هو ضروري بعد تأمل ونظر، ومنها ما هو ضروري بعد النظر في دليل ذي مقدمتين، أو مقدمات. فقال الشيخ العارف: نحن نجد العلم وجدا ضرورياً بالطريق التي نسلكها من تزكية النفس، وإصلاح القلب الذي هو حامل العلم وداعيه فكل منهما يفيض الله العلم على قلبه، وينزله على فؤاده، ولكن أحدهما بتحصيل العلم المقارن للعلم المطلوب،الذي هو المقدمات، والآخر بإصلاح طالب العلم الذي يريد أن يكون عالماً ـ وهو القلب ـ بمنزلة من يخطب امرأة، فتارة تجمَّل لها وتَعَرَّض حتى رأته فرغبت فيه وخطبته، وتارة بأن أرسل إليها من تأنس إليه وتطيعه، فخطبها له فأجابت، فكان سعي الأول وعمله في إصلاح نفسه وتعرضه لها حتى ترغب، وكان سعي الثاني في تحصيل الرسول المطاع حتى تجيب. وبمنزلة من يصيد صيدًا. لكن مجرد النظر والعمل مجتمعين ومنفردين، لا يحصلان إلا أمراً مجملاً، كما هو الواقع، وذلك صحيح. فإن ثبوت الأمر المجمل حق، فإن ضما إلى ذلك ما يعلم بنور الرسالة من الأمر المفصل حصل الإيمان النافع، وزال ما يخاف من سوء عاقبة ذينك الطريقين. وهذه حال من تحيز من أهل النظر الكلامي، والعمل العبادي إلى اتباع الرسول والإيمان به، فقبل منه وأخذ عنه. /وإن لم يضم أحدهما إلى ذلك ما جاء به الرسول، فإما أن يضم ضده، أو لا يضم شيئاً، فإن ضم إلى ذلك ضد ما جاء به الرسول وقع في التكذيب، وهو الكفر المركب، وإن لم يضم إليه شيء بقى في الكفر البسيط، سواء كان في ريب، أو في إعراض وغفلة. فإن حال الكافر لا تخلو من أن يتصور الرسالة أولا، فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها، وعدم إيمان بها، كما قال: وإن كان مع ذلك لا حظ له، لا مصدق ولا مكذب، ولا محب ولا مبغض، فهو في ريب منه، كما أخبر بذلك عن حال كثير من الكفار، منافق وغيره، كما قال: فأخبر ـ سبحانه ـ عن مناظرة الكفار للرسل في الربوبية أولا،فإنهم في شك من الله الذي يدعونهم إليه،وفي النبوة ثانيا بقولهم: وكل واحد من الأمرين في أن يضم إلى المعرفة المجملة، إما تكذيب، وإما كفر بلا تكذيب واقع كثيراً في سالكي الطريقين، النظر في القياس المجرد، والعمل بالعبادة المجردة. مثال ذلك: أن كثيراً من النظار أثبت واجب الوجود، أو صانع العالم، وذهبوا في تعيينه وصفاته مذاهب يضيق هذا الموضع عن تفصيلها ـ معروفة/ في كتب المقالات، من أهل ملتنا، وغير أهل ملتنا ـ مقالات الإسلاميين المصلين، ومقالات غيرهم. وكثير من العباد المتأخرين أثبت أيضا ذلك إثباتا مجملا، وتوهموا فيه أنواعا من التوهمات الكفرية، الذي يصفها عارفوهم. فمنهم من توهمه الوجود المطلق، المشترك بين الموجودات، كالإنسان المطلق مع أعيانه وأفراده، فإذا تعين الوجود لم يكن إياه؛ إذ المطلق ليس هو المعين، كما يقوله الصدر القونوي. ومنهم من توهم أن وجود الممكنات هو عين وجوده الفائض عليها. كما يذكره صاحب الفصوص ومنهم يتوهمه جملة الوجود، وكل معين فهو جزء منه، كالبحر مع أمواجه، وأعضاء الإنسان مع الإنسان. فليس هو ما يختص بكل معين، لكنه مجموع الكائنات، كالعفيف التلمساني، وعبد الله الفارسي البلياني، ويقولون: إن كل موجود فهو مرتبة من مراتب الوجود، أو مظهر من مظاهره، بمنزلة أمواج البحر معه، وأعضاء الإنسان معه، وأجزاء الهوى مع الهواء، أو بمنزلة هذا الإنسان وهذا الحيوان مع الحيوان المطلق والإنسان المطلق. ويقول شاعرهم ابن إسرائيل: وما أنت غير الكون بل أنت عينه ** ويفهم هذا السر من هو ذائــق وقال: وتلتذ إن مرت على جسدي يـدي ** لأني في التحقيق لست سواكم /ولهذا ليس عندهم للإنسان غاية وراء نفسه، وإنما غايته أن ينكشف الغطاء عن نفسه، فيري أن نفسه هي الحق، وكان قبل ذلك محجوبا عنها، فلما شاهد الحقيقة رأى أنه هو كما قال ابن إسرائيل: ما بال عيسك لا يقــر قرارهــا ** إلا في ظلك لا تني منتقـــــــلا فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ** إلا إليـــك إذا بلغــت المنــــزلا وكما يقول بعضهم: وفـي كــل شـيء لــه آيـة ** تــدل علـى أنـــه عيـنـه والله يقول: توهمت قدما أن ليلـــى تبرقعـت ** وأن حجــــاباً دونهــا يمنــع اللثمــا فلاحت،فلا والله ما كان حجبها ** سوى أن طرفي كان عن حبها أعمى وله شعر كثير في هذا الفن: هي الجوهر الصرف القديم وإن بدا ** لـهـا خبـث أتيت بـه فهـو حـادث /حلفت لهم ما كان منها غير ذاتها ** فقـالـوا اتئد فيـهـا فـإنـك حـانـث ولـه: وقل لحبيبك مت وجداً وذب طربا ** فيها وقل لزوال العقل لا تزل واصمت إلى أن تراهـا فيك ناطقـة ** فإن وجـدت لسانا قائلا فقــل ولهذا يصلون إلى مقام لا يعتقدون فيه إيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإنما يرون الإيجاب والتحريم للمحجوبين عندهم، الذين لم يشهدوا أنه هو حقيقة الكون، فمن العابد ومن المعبود ومن الآمر ومن المأمور؟ كما قال صاحب الفتوحات في أولها: الرب حـق والعبــــد حق ** يا ليـت شعــري من المكلــف ؟ إن قـلت عبـد فـذاك ميـــت ** أو قـلــــت رب أنـي يكـلف ؟ وعندهم أن التكليف هو في مرتبة من مراتب الأسماء والصفات وهو مرتبة الممتحن. قال بعضهم: ما الأمر إلا نسق واحـــد ** ما فيه من مــــدح ولا ذم وإنما العادة قد خصصــت ** والطبع والشارع بالحكـــم /ومنشأ هذين عن الصابئة ـ كما يبين ذلك عند التأمل ـ فإن الصابئة الخارجين عن التوحيد لله وحده لا شريك له ـ كالمشركين، والمجوس ـ مثل فرعون موسى، ونمروذ إبراهيم، وغيرهم من البشر، معترفون بالوجود المطلق. ولهذا كان أفضل علوم الفلاسفة هو علم ما بعد الطبيعة، أعني بهم الفلاسفة المشائين الذين يتبعون [أرسطو]، فإنه عندهم المعلم الأول الذي صنف في أنواع التعاليم من أجزاء المنطق، والعلم الطبيعي كالحيوان، والمكان والسماء، والعالم، والآثار العلوية، وصنف فيما بعد الطبيعة ـ وهو عندهم غاية حكمتهم، ونهاية فلسفتهم ـ وهو العلم الذي يسميه متأخرو الفلاسفة ـ كابن سينا: [العلم الإلهي]. وموضوع هذا العلم عند أصحابه: هو الوجود المطلق ولواحقه، مثل الكلام في الموجود، والمعدوم، ثم في تقسيم الموجود إلى واجب وممكن، وقديم، ومحدث، وعلة ومعلول، وجوهر وعَرَض، ونحو ذلك. ثم الكلام في أنواع هذه الأقسام وأحكامها، مثل: تقسيم العلل إلى الأنواع الأربعة، وهي: الفاعل والغاية، اللذان هما سببان لوجود الشيء، والمادة والصورة، اللذان هما سببان لحقيقة المركب، وتقسيم الأعراض إلى الأجناس المقالية التسعة،وهي: الكيف، والكم، والوضع، والأين، ومتى، والإضافة، والملك، وأن يفعل، وأن ينفعل، أو جعلها خمسة على ما بينهم من الاختلاف. /وفي آخر علم ما بعد الطبيعة حرف اللام ـ كأنه هو العلة الغائية، الذي إليه الحركة، كما أثبت المعلم الأول وجوده بطريق الاستدلال بالحركة ـ الذي تكلم فيه المعلم الأول على واجب الوجود لذاته، بكلام مختصر ذكر فيه قدراً يسيراً من أحكامه ـ وهو الذي كان يقول فيه ابن سينا فهذا ما عند المعلم الأول من معرفة الله. وأما النبوات والرسل، فليس لهؤلاء فيها كلام معروف، لا نفيا ولا إثباتا. وأما المتأخرون فهم لما ظهرت الملة الحنيفية ـ الإبراهيمية، التوحيدية ـ تارة بنبوة عيسى ـ لما ظهرت النصارى على مملكة الصابئين بأرض الشام، ومصر، والروم، وغيرها ـ ثم بنبوة خاتم المرسلين، وأظهر الله من نور النبوة شمساً طمست ضوء الكواكب، وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم خفى بعض نور النبوة، فعرب بعض كتب الأعاجم الفلاسفة، من الروم، والفرس والهند، في أثناء الدولة العباسية. ثم طلبت كتبهم في دولة المأمون من بلاد الروم، فعربت، ودرسها الناس، وظهر بسبب ذلك من البدع ما ظهر، وكان أكثر ما ظهر من علومهم الرياضية كالحساب والهيئة، أو الطبيعية كالطب، أو المنطقية، فأما الإلهية،فكلامهم فيها نزر وهو مع نزارته ليس غالبه عندهم يقينا، وعند المسلمين من العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نوراً وهدى، /بل متكلموهم الذين ينسبون إلى البدع عندهم من العلم الإلهي بمقاييسهم المستخرجة أضعاف أضعاف أضعاف ما عند حذاق المتفلسفة. ثم بعد ذلك لما صار فيهم من يتحذق على طريقتهم في علم ما بعد الطبيعة، كالفارابي، وابن سينا ونحوهم، وصنف ابن سينا كتباً زاد فيها بمقتضى الأصول المشتركة، أشياء لم يذكرها المتقدمون، وسمى ذلك العلم الإلهي، وتكلم في النبوات، والكرامات، ومقامات العارفين، بكلام فيه شرف ورفعة، بالنسبة إلى كلام المتقدمين. وإن كان عند العلوم الإلهية النبوية فيه من القصور والتقصير والنفاق والجهل، والضلال والكفر، ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة بالعلم والإيمان، وإنما راج على من سلك طريق المتفلسفة؛ لأنه قرب إليهم معرفة الله، والنبوات، والمعجزات، والولاية، بحسب أصول الصابئة الفلاسفة ـ لا بحسب الحق في نفسه ـ بما أشرق على جهالاتهم من نور الرسالة، وبرهان النبوة. كما فعله نسطور النصراني، الذي كان في زمن المأمون، الذي تنسب إليه النسطورية في التثليث والاتحاد، لكنه بما أضاء عليه من نور المسلمين أزال كثيراً من فساد عقيدة النصراني، وبقى عليه منها بقايا عظيمة. وكذلك يحيى بن عدي النصراني، لما تفلسف قرب مذهب النصارى في التثليث إلى أصول الفلاسفة في العقل، والعاقل، والمعقول. /ولهذا الفلاسفة المحضة ـ الباقون على محض كلام المشائين ـ يرون أن ابن سينا صانع المليين،لما رأوا من تقريبه،وجهلوا فيما قالوا، وكذبوا،لم يصانع،ولكن قال ـ بموجب الحق وبموافقة أصولهم العقلية ـ ما قاله من الحق الذي أقر به، كما أن الفلاسفة الإلهيين المشائين وغيرهم متفقون على الإقرار بواجب الوجود، وببقاء الروح بعد الموت، وبأن الأعمال الصالحة تنفع بعد الموت، ويخالفهم في ذلك فلاسفة كثيرون من الطبيعيين وغيرهم، بل وبين الإلهيين من الفلاسفة خلاف في بعض ذلك حتى الفارابي، وهو عندهم المعلم الثاني يقال: إنه اختلف كلامه في ذلك. فقال تارة ببقاء الأنفس كلها، وتارة ببقاء النفوس العالمة دون الجاهلة. كما قاله في آراء المدينة الفاضلة، وتارة كذب بالأمرين، وزعم الضال الكافر أن النبوة خاصتها جودة تخييل الحقائق الروحانية، وكلامهم المضطرب في هذا الباب كثير، ليس الغرض هنا ذكره. وإنما الغرض أن العلم الأعلى عندهم والفلسفة الأولى علم ما بعد الطبيعة وهو الوجود المطلق ولواحقه، حتى أن من له مادة فلسفية من متكلمة المسلمين - كابن الخطيب وغيره - يتكلمون في أصول الفقه، الذي هو علم إسلامي محض، فيبنونه على تلك الأصول الفلسفية. كقول ابن الخطيب وغيره في أول أصول الفقه ـ موافقة لابن سينا ومن قبله: العلوم الجزئية لا تقرر مبادئها فيها؛ لئلا يلزم الدور، فإن مبدأ العلم أصوله، /وهو لا يعرف إلا بعدها. فلو عرفت أصوله بمسائله المتوقفة على أصوله، للزم الدور بل توجد أصوله مسلمة، ويقدر في علم أعلى منه، حتى ينتهي إلى العلم الأعلى الناظر في الوجود ولواحقه، وهذا قالوه في مثل الطب والحساب: إن الطببب إنما هو طبيب ينظر في بدن الحيوان، وأخلاطه وأعضائه ليحفظه صحته إن كانت موجودة، ويعيدها إليه إن كانت مفقودة، وبدن الحيوان جزء من المولدات في الأرض، وكذلك أخلاطه. فأعم منه النظر في المولدات من الأركان الأربعة، الماء، والهواء، والنار، والأرض. وأعم من ذلك: النظر في الجسم المستحيل، ثم في الجسم المطلق، فما من علم يتعلق بموضوع ببعض الموجودات العينية، أو العلمية إلا وأعم منه ما يشترك هو وغيره فيه. فأما إدخال العلم بالله الذي هو أعلى العلوم، وأشرفها في هذا، وجعله جزءاً من أجزاء العلم الأعلى ـ عندهم ـ الناظر في الوجود ولواحقه وكذلك ما يتبع ذلك من العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر- فهذا منشأ الضلال القياسي. ويتبين ذلك من وجوه: أحدها:أن الله ـ سبحانه ـ هو الأعلى وهو الأكبر؛ ولهـذا كان شعار أكمل الملل هو: الله أكبر في صلواتهم وأذانهم وأعيادهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم:(يا عدي، ما يُفِرُّك! أيفرك أن يقال لا إله إلا الله؟/ يا عدي،فهل تعلم من إله إلا الله؟ يا عدي، ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله)؟ وبهذا: تبين صواب من قال من الفقهاء أنه لا يجوز إبدال هذه الكلمة بقولنا: الله الكبير، مع أن كشف هذا له موضع آخر. وقال: الثاني: أن الله ـ سبحانه ـ هو الحق الموجود بنفسه، وسائر ما سواه خلق من خلقه، مربوب مقهور تحت قدرته، وهو خالق الأشياء مسبب أسبابها، فالعلم به أصل للعلم بما سواه وسبب، كما أن ذاته كذلك، والعلم بالسبب يفيد العلم بالمسبب. الثالث: معرفة أن الوجود المطلق هو المعرفة بالقدر المشترك بينه وبين ما سواه، وهو علم بالحد الأوسط في قياسه على خليقته، ومعلوم أن ذلك ليس فيه علم بحقيقته، ولا بحقيقة ما سواه، وإنما هو علم بوصف مشترك بينهما، فكيف يكون العلم بوصف مشترك أعلا من العلم بحقيقة كل منهما، وسائر ما يختص به عن غيره من الأنواع، والأعيان؟ وكذلك معرفة الذات المطلقة، وما هو كل من الأمور المشتركة، هو من هذا الباب. /الرابع: أن الوجود المطلق، والذات المطلقة ونحو ذلك: إما أن يراد به الإطلاق الخاص، وهو الذي لا يدخل فيه المقيد، كما يقال: الماء المطلق، فهذا لا وجود له في الخارج عن العقل والذهن، كما أن الوجود الكلي العام، والذات الكلية العامة، لا وجود لها في الخارج، وإنما يعرض للحقائق هذا العموم، وهذا الإطلاق من حيث هي معقولة في الأذهان، لا من حيث هي ثابتة في الأعيان. فكيف يكون أعلى العلوم وأشرفها معلومه هو المثل الذهنية لا الحقائق الوجودية، والمثل إنما هي تابعة لتلك، وإلا لكانت جهلا لا علما، وإما أن يراد به الإطلاق العام، وهو ما لا يمنع شيئا من الدخول فيه وهو المطلق من كل قيد، حتى عن الإطلاق. فالمطلق بهذا الاعتبار له وجود في الخارج على القول الصحيح. لكن لا يوجد مطلقا لا يوجد إلا معينا،فإما موجود مطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له،وهو المطلق الخاص، فالمطلق العام لما كان يدخل فيه المقيد صح أن يوجد في الخارج، فإذا كان الوجود المطلق ولواحقه ليس بموجود في الخارج مطلقًا، ولا يوجد في الخارج إلا معين امتنع أن يكون أعلى العلوم، إنما وجود معلومه في الأذهان لا في الأعيان. ولو جاز ترجيح العلم بالمثل الذهنية على الحقائق الخارجية، لجاز ترجيح المثل على الحقائق، ولكان العلم بالرب والملائكة والنبيين أفضل من ذات الرب، والملائكة والنبيين، وهذا لا يقوله عاقل. /الخامس: أن القوم إنما أتوا من جهة أنهم بنوا أمرهم في علومهم جميعاً على القياس، ولابد في القياس من قضية كلية، وَحَدٍّ أوسط يكون أعم من الموصوف المحكوم عليه المبتدأ الموضوع. وما من حد وقضية إلا وثمَّ ما هو أعم منه، مثل أن يقول: الإنسان، فأعم منه الحيوان، فأعم منه الجسم النامي، فأعم منه الجسم السفلي، فأعم منه الجسم، فأعم منه الجوهر، فأعم منه الموجود، سواء كان جنساً ذاتيا كما يقوله بعضهم، أو وصفاً عرضيا كما يقوله الحذاق. فلو قيل: أعلى العلوم القياسية العلوم بالموجود ولواحقه، لكون معلومه أعم الموضوعات لكان له مساغ، ولعل هذا مرادهم. لكن العلم القياسي لا يفيد بنفسه معرفة حقيقة شيء من الأشياء الموجودة، إلا إذا كان له نظير مماثل، فيعرف أحد المثلين بنفسه، والآخر بقياسه على نظيره، وهذا القدر منتف في العلم بالله، لا يوجد مثله ونظيره، ثم قد عارضهم المتكلمون بما هو أعلى من الوجود وهو المعلوم والمذكور فقالوا: أعلا المعلوم وأعم الأسماء والحدود: المعلوم والمذكور؛ لأنه يدخل فيه الموجود والمعدوم، بنوعي الوجود: واجبه وممكنه، ونوعي المعدوم ممكنه وممتنعه، فكان يجب أن يقال: العلم الأعلى الناظر في المعلوم ولواحقه، وهذا أعم وأوسع. وكون الشيء معلوماً أمر يعرض له، لاصفة ذاتية وكذلك كونه موجوداً، إذ هو في الحقيقة، كونه بحيث يجده الواجد، هذا مقتضي الاسم،/وإن عنى به بعضهم كونه حقاً في نفسه، فهذا ليس هو حقيقته التي هي هو، كما قد قرر هذا في غير هذا الموضع. وإن من قال من المتفلسفة أو المتكلمة: إن حقيقة الرب هي وجوده أو وجوب وجوده، أو أنهم علموا حقيقته فقد أخطأ في ذلك خطأ قبيحاً، وأن هذا بمنزلة من قال: حقيقة سائر الكائنات كونها ممكنة، وهؤلاء بعداء عن الله محجوبون عن معرفته، لم يعرفوا منه إلا صفة كلية من صفاته فظنوا أنهم عرفوا حقيقته. وبهذا يتبين لك أن من قال: العلم الأعلى هو علم ما بعد الطبيعة، وهو الناظر في الوجود ولواحقه، فإنما حقيقة ذلك أنه أعلى في ذهن الطالب لمعرفة الله بالقياس علي خلقه، لا أنه أعلى في نفسه، ولا أن معلومه أعلى، ولا أعلى عند من عرف حقائق الموجودات، ولا أعلى عند من عرف الله بالفطرة، فضلا عمن عرفه بالشرعة، فضلا عمن عرفه بالولاية، فضلا عمن عرفه بالوحي والنبوة، فضلا عمن عرفه بالرسالة، فضلا عمن عرفه بالكلام، فضلا عمن عرفه بالرَّوية. فلما كان منتهى الفلاسفة الصابئية، وأعلى علمهم هو الوجود المطلق، وكان أصل التجهم، وتعطيل صفات الرب إنما هو مأخوذ عن الصابئة، وكان هؤلاء الاتحادية في الأصل جهمية، وأنه بما فيهم من النصرانية - المشاركة للصابئة صار بينهم وبين الصابئة نسب - صار معبودهم وإلههم هو/ الوجود المطلق، وزعموا أن ذلك هو الله، مضاهاة لما عليه خلق من قدماء الفلاسفة، من تعطيل الصانع وإثبات الوجود المطلق، حتى يصح قول فرعون: وإن كان الفلاسفة المسلمون لا يوافقون على ذلك، بل يقرون بالرب الذي صدر عنه العالم، لكنهم بتعظيمهم للوجود المطلق صاروا متفقين متقاربين، ومن تأمل كلام النصير الطوسي الصابئي الفيلسوف، وكلام الصدر القونوي النصراني الاتحادي الفيلسوف، وكلام الإسماعيلية في البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم - الذي يقول فيه: أقرب الناس إلينا الفلاسفة، ليس بيننا وبينهم خلاف إلا في واجب الوجود، فإنهم يقرون به، ونحن ننكره ـ عرف ما بين هؤلاء من المناسبة. وكذلك المراسلة التي بين الصدر والنصير، في إثبات النصير لواجب الوجود، على طريقة الصابئة الفلاسفة، وجعل الصدر ذلك هو الوجود المطلق، لا المعين، وأنه هو الله، علم حقيقة ما قلته، وعلم وجه اتفاقهم على الضلال والكفر، وأن النصير أقرب من حيث اعترافه بالرب الصانع المتميز عن الخلق، لكنه أكفر من جهة بعده عن النبوة، والشرائع، والعبادات. وأن الصدر أقرب من جهة تعظيمه للعبادات، والنبوات، والتأله، على طريقة النصارى، لكنه أكفر من حيث إن معبوده لا حقيقة له، وإنما يعبد الوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الخارج. /ولهذا كان الصدر أكفر قولا، وأقل كفراً في عمله،والنصير أكفر عملا، وأقل كفراً في قوله،وكلاهما كافر في قوله وعمله،ولهذا يظهر للعقلاء من عموم المسلمين من كلام الصدر أنه إفك وزور وغرور، مخالف لما جاء به الرسول، كما يظهر لهم من أفعال النصير أنه مروق وإعراض عما جاء به الرسول؛ ولهذا: كان النصير أقرب إلى العلماء؛ لأن في كلامه ما هوحق، كما أن الصدر أقرب إلى العباد؛ لأن في فعاله ما هو عبادة.
|